الأحد الثاني من الصوم الكبير – أحد القدّيس غريغوريوس بالاماس


القديس غريغوريوس بالاماس

القدّيس غريغوريوس بالاماس

إنَّ الله هو نورٌ أزليٌّ غير مخلوق وقداسة كليّةٌ وكاملةٌ. تقودنا الشركة معه إلى الاستنارة الروحيّة وتهب الروح فرحاً مغبوطاً يستحيل وصفه. أمَّا الشركة الإلهية فتكسب عن طريق الصلاة والترفُّع الأخلاقي والجهادات الروحيّة والصمت المقدّس. لقد توصل بهذه الطريقة الآباء العظام الصوفيون آباء الشرق الأرثوذكسي إلى الشركة الإلهيّة. إنَّ القدّيس غريغوريوس بالاماس رئيس أساقفة تسالونيكي المدافع العظيم عن الإيمان الأرثوذكسي والممثل الأبرز لتلك الحركة الروحيّة التأمُّل المنتشرة خلال القرن الرابع عشر الميلادي في أوساط الكنيسة الشرقيّة ( الأرثوذكسيّة ) والّتي عُرفت باسم السكوت أو عدم التمنطق والمكرَّم اليوم هو واحدٌ من هؤلاء الآباء.

لنتعرّف اليوم باختصار على سيرة حياة وتعليم القدّيس غريغوريوس بالاماس:

وُلِدَ هذا الإنسان المُحِبُّ لله حوالي أواخر القرن الثالث عشر الميلادي من قبل والدين نبيلين صالحين ومستنيرين روحيّاً. حصل القدّيس غريغوريوس بالاماس على تربيةٍ مسيحيّةٍ صالحةٍ وتعليمٍ عالي جيّد بالنسبة إلى ذلك الوقت وقد بقي منذ صغره يتيماً بدون أبٍ. وقد تولّت عناية تربية ولديها اليتيمين أُمَّهُ المستنيرة روحيّاً أظهر القدّيس غريغوريوس منذ حداثته ميلاً نحو الحياة التأمُّليّة فقد كان يخوض سيرةً رهبانيةً صارمةً بالرغم من كونه ما يزال شاباً. عندما أصبح القدّيس غريغوريوس يافعاً قرّر أن ينذر ذاته بالكليّة لخدمة الله.

سافر القدّيس غريغوريوس مع شقيقيهِ إلى الجبل المقدّس الّذي كان في تلك الفترة حديقةً روحيّة مزهرةً وحصناً للأرثوذكسيّة. كذلك قبلت أمَّه مع بنتيها الرهبنة أيضاً.

وضع القدّيس غريغوريوس نفسهُ في آثوس تحت التوجيه الروحي للشيخ نيقوديموس. كان هذا الشيخ الخبير يدخل ويوغّل غريغوريوس في الحياة الروحيّة طوال ثمانيّة سنواتٍ. وبعد موت الشيخ نيقوديموس سكن غريغوريوس في إسقيط أو دير ( لافرا )القدّيس أثناسيوس الآثوسي أمضى القدّيس في هذا المكان وفي مدّة تجاوز عشر سنوات حياةً نسكيةً صارمةً جدّا. لقد نمى القدّيس غريغوريوس بالصوم والصلاة والصمت والتأمُّل في الحياة الرّوحيّة وتوّصل إلى قِمَّة التأمُّل الإلهي.

وصل في ذلك الحين إلى آثوس راهبٌ ًمن كالابريا ( إيطاليّا الجنوبيّة ) اسمه برلعام إنسانٌ عالمٌ ونابغٌ بالفلسفة اليونانيّة القديمة . بدايةً ربطت بين غريغوريوس وبرلعام أواصرُ صداقةٍ متينةٍ. لكنَّ برلعام بدأ لاحقاً يلوم غريغوريوس بسبب مفاهيمه الصوفيّة. وقد وصلت النقاشات بين الراهبان العالمان بالتدريج إلى درجة حربٍ كلاميّة حادّةٍ. وقد تبيّن أنَّه كان برلعام يعتقد بتعليمٍ خاطئٍ يتعلق بمسألة طبيعة وصفات الله وبما يتعلّق بمسألة فُرص وطُرق الوصول إلى الشركة الإلهيّة. كما وتبيّن بأنَّ هذين الراهبين كانا تلميذين لمدرستين مختلفتين: أحدهما: للمدرسة التجريبيّة والآخر: للمدرسة الصوفيّة وبالتالي كانا يفكّران ويشعران بشكلٍ مختلفٍ.

أدخلت آراء برلعام الاضطراب بين أوساط الآباء الآثوسيين. خرج جدال غريغوريوس من تخوم الجبل المقدّس ووصل إلى مدينتي تسالونيكي والقسطنطينيّة بعد أن أقلقت النفوس هنالك أيضاً. أخذ الجدال في هذه المنطقة شكلاً أشدَّ عنفاً وعاطفةً من ذي قبلٍ.وقد شارك في هذا الجدال  الكثير من اللاهوتيين البارزين.

بدايةً حصل برلعام على النجاح فقد كان البطريرك يوحنّا كاليكا في صفِّه. وأُلقيَ بالقدّيس غريغوريوس في السجن واستمرَّ الجهاد لكن في النهاية أخذ تعليم القدّيس غريغوريوس مكان الصدارة. وأُنزل بالبطريرك كاليكا عن منصبه. وأمَّا برلعام فأُدينَ كهرطوقي. وتوّجبَ على التجريبيّة الناشفة أن تزيح نفسها وتترك مكانها للصوفيّة. وبُرّر القدّيس غريغوريوس بالاماس واختير بعد ذلك بقليلٍ ( عام 1349 ) كرئيس لأساقفة تسالونيكي . أظهر القدّيس بصفته رئيس أساقفةٍ عملاً رئاسيّاً رعويّاً وكتابيّاً مثمراً. فقد كتب الكثير من المقالات الّتي إما لم يصل بعضها إلينا وإما أنَّها لم تُكتشف بعد.

حاز القدّيس غريغوريوس بلقب اللاهوتي ومدافع كبير عن الإيمان الأرثوذكسي لنفسه فقد كان القدّيس غريغوريوس وديع ونبيل الأخلاق وكان يجيب بالخير على الشرِّ الّذي كان يُفعل له وكان يحتمل المصائب بصبرٍ. كما كان ذو سيرةٍ فاضلةٍ ومقدّسةٍ. أكرم الله عليه بموهبة صنع العجائب والتنبؤ وبموهبة دموع التوبة والتوسُّل الغير المنقطعة والّتي تضرّرت عيناه منها. رقد في الرابع عشر من تشرين الثاني سنة 1359 عن عمرٍ يناهز الثلاث والستين سنةً . وقد أضيف إلى عداد القدّيسين ثمانية سنواتٍ وبعد ذلك بقليلٍ رُتّب بأن تُكرّم ذكراه في يومنا هذا في الأحد الثاني من الصوم الكبير. تمجّده الكنيسة المقدّسة كسراجٍ للأرثوذكسيّة وكمعلّمٍ وعامودٍ للكنيسة وكزينةٍ للرهبان وكبطلٍ من أبطال اللاهوت لا يقهر وكمبشّرٍ للنعمة وكعضوٍ مقدّسٍ من أعضاء الحكمة.

مما كان يتكوّن تعليم القدّيس غريغوريوس بالاماس؟ إنَّ هذا التعليم في الأساس هو تعليم الآباء الصوفيين الأقدمين لكن مع إضاءةٍ جديدةٍ وكان يُعرف باسم الصوفيّة. إنَّ تعليم الصوفيين في صيغه المختصرة هو كالتالي:

إنَّ الشركة الإلهية كما قيل سابقاً هي أصل والهدف الوحيد للحياة الدينيّة. وإنَّ هذه الشركة تتحقّق بثلاث مراحل متعاقبة:

1- ” البراكسيس” أي مرحلة العمل الأخلاقي الروحي والفعلي

2- ” الثيوريا” أي مرحلة التأمُّل الروحي و

3- ” الإكستاسيس” أي مرحلة النشوة الروحيّة

فالبراكسيس هو بالأخص تدريب الإرادة بالزهد عن الملذات الجسديّة بالصوم والصلاة والسهر والتواضع والانسحاق القلبي والتعب البدني والمحبّة الفعّالة والطاعة والصبر. إنَّ الهدف من البراكسيس هو التغلّب على الشغف الروحي لكي يتمكّن الإنسان من تطهير نفسه أخلاقيّاً حتّى يكون بإمكانه أن يتأمّل في الأمور الإلهيّة بسهولة أكبر.

أمّا الثيوريا فتكمن في التعمّق الرّوحي وفي الصلاة التأمُّليّة أو المدعوة أيضاً بالصلاة العقليّة والّتي تتمَّ في سكوتٍ تامٍّ الّذي يقود إلى انعدام الشهوات والأهواء والمعرفة الإلهيّة والتوصّل إلى الأسرار الإلهيّة الّتي لا يمكن للعقل البشري أن يتوصَّل إليها بطريقة أخرى.

أمّا الإكستاسيس فهو قمّة الحياة الروحيّة إنّه حصول الإنسان على عمل نعمة الروح القدس فيه والحصول على الضياء أو الاستنارة الإلهيّة مصحوبة مع شعور خاص بالفرح والغبطة الروحيّة وسلام النعمة والنشوة الروحيّة والتحليق القلبي نحو السماويات الإلهيّة والدخول في شركةٍ مع الله والاندماج به.

وهكذا يصبح الإنسان على مثال الله الآن هنا أيضاً على الأرض أي أنَّه يُخترق ويُقدّس من قبل اللاهوت ويصبح مشتركاً في النور الطابوري اللامادي والعديم الفساد.

علّم القدّيس غريغوريوس بأنَّ جسد الإنسان حتّى وإن كان معطوباً من الخطيئة فإنَّه مع ذلك خليقة الله وهيكلٌ للروح القدس وبالتالي فهو قادرٌ على التقدّس على خلاف برلعام و هرطقة البوغوميلي أي عزيزو الله.

كان لانتصار القدّيس غريغوريوس على برلعام عقباتٍ حسنةٍ. فقد وُضِعَت الحياة الكنسية والثقافيّة بكاملها تحت راية الصوفيّة. كانت الصوفيّة المجرى المائي الجديد والنقي الّذي أثمر الحياة الروحيّة بثمار النعمة الغنيّة.

يجد القدّيس غريغوريوس وتعليمه تبريراً لهما في قول الرّب يسوع:

” طوبى لأنقياء القلوب فإنَّهم يرون الله ( متّى5: 8 ) أو ” الّذي يحبُّني يحبُّه أبي وأظهر له ذاتي ” ( يوحنّا14: 21 )

إنَّ هذا التعليم هو إثباتٌ لذلك الشعور الّذي اختبره القدّيس بولس ذاته في القدم عندما شهد لواقعية وحقيقة تلك الأمور من العالم الروحي الّتي لا يمكن للإنسان أن ينطق بها ( 2كورنثوس12: 4 ). لقد ظهر القدّيس غريغوريوس بمثابة بولس جديد الّذي تمكّن عن طريق السكوت ( السلام والصمت الداخلي ) أن يتوّصل إلى المرحلة الأسمى من مراحل الشركة والاستنارة الإلهيّتين في أحكام طبيعتنا الأرضيّة الحاضرة.

وقد توّصل أشخاصٌ آخرون على مثال القدّيس غريغوريوس وعن طريق السكوت والجهادات الأخرى إلى حالة الاستنارة والرؤية الإلهيّتين. يكفينا فقط أن نتذكّر عن البار ثاودوسيوس ترنوفسكي البلغاري والقدّيس سيرافيم ساروفسكي الروسي فقد شوهد الأول منهما من قبل تلميذه أفثيميوس مُحترقاً كعامودٍ ناري في وقت الصلاة فيما شوهد الثاني وفي وقت الصلاة أيضاً مضاءً من نعمة الروح القدُس مُضيئاً أكثر من الشمس ضياءً في ضيائها الظهري أي ظهراً.

ونحن إذ نعيّد اليوم بذكرى القدّيس غريغوريوس بالاماس فلنطلب صلواته المقدّمة لله من أجلنا ولنسبّحه بأقوال طروباريته اليوميّة المدائحيّة :

” أفرح يا مديحاً للآباء يا فماً للاهوتيين يا مسكناً للصمت يا منزلاً للحكمة يا قمّةً للمعلّمين يا عمقاً للكلمة! أفرح يا عضواً للعمل يا منتهىً للرؤية الإلهيّة يا شافيّاً للعجز البشري! أفرح يا هيكل الروح! أفرح يا أبانا الّذي وإن كنت ميّتاً فإنَّك ما تزال حيّاً!”

آمين!

هذا المقال مأخوذ عن” سينكسار التريودي ” إصدار السينودُس أي المجمع المقدّس البلغاري

تُرجم ونُقِل عن موقع الأرثوذكسيّة البلغاري.

فيكتور دره 21/ 3 / 2011

تعليق واحد »

  1. اجسادكم هياكل الروح القدس وكما يردد الكاهن في صلاة البروجزميني عند القراءات نور المسيح مضيئ للجميع وفي فجر القيامة العظيم يقول الكاهن ضمن القداس عندما نهم بالخروج الى خارج الكنيسة ( صلاة الهجمة ) يقول وهو ممسكاً شمعة بيده هلمو خذوا نوراً من النور الذي لايعروه مساءالعل هذا النور استقر ت في داخلك فاصبحت منارة توضع فوق المكيال ربي يزيدك من نعيمه وتبقى لنا منارة طول الايام

أضف تعليق